ماساة الحرب ..هل ندرك المجهول فينا
درب الحقيقة:
بقلم أحمد مختار البيت
(1)
أيقظت الحرب العمياء الدائرة في السودان منذ 15 أبريل الماضي النائم من المسكوت عنه في تاريخنا القريب والبعيد، وإنقسم الناس حولها إلى جبهات مختلفة، كل جبهة استخدمت المتاح من وسائل الميديا المتعددة لشيطنة الآخر والإزدراء به والتقليل من شأنه، بلا سقوف أخلاقية ، وتلك كانت مصيبة أفدح من الحرب، فازدهر الاستعلاء القبلي والعنصري والجهوي، ونما خطاب الكراهية النتن، وانحدرت الكتابة والحوارات والنقاشات حول مأساة الحرب إلى الحضيض وغابت الحقيقة عن المنصات والمنابر، وتاه المواطن في ركام الأكاذيب والدعاية السوداء لأطراف الحرب. ومن المفارقات المدهشة، التي تدعو للإعجاب والفخر، أن كل هذا السيل من الدعاية والتحريض المتبادل على مدار أكثر من ثلاثة شهور ونصف، (لم يهز إيمان الشعب السوداني بوحدته، أو يزعزع ثقته في قيمه وأخلاقه) وتلك مأثرة عظيمة يسجلها التاريخ.
صحيح يمكن القول أن الحرب كشفت أسوأ ما فينا من (أنانية وطمع وجشع وانفصام شخصية وخيانة أمانة وتعدي على حقوق الأبرياء وارتكاب جرائم مقززة، ونهب وتدمير ممتلكات مواطنين عزل تفرقت بهم السبل وسعت مجموعات عديدة منظمة استغلت حالة الفوضى وإنعدام إجهزة الضبط للتربح من معاناة الفارين من جحيم الحرب ومأساتهم والسمسرة في دموع اليتامي والمتضررين، ولكن بذات القدر كانت الحرب فرصة اختبر فيها السودانيون بقوة قيم راسخة، التهمت بعضها سياسات التحرير الإقتصادي خلال العقود الثلاثة الماضية، مثل الجود والإيثار والتضحية وإغاثة الملهوف والكرم ونبل المواقف لآلاف من السودانيين والسودانيات، الذين تجردوا رغم الظروف الاقتصادية والمعيشية الصعبة والقاسية، لخدمة المتضررين من كافة أبناء الشعب السوداني، من الجنوب أومن الشمال وواصلوا الليل بالنهار، لمد يد العون والمساعدة للنازحين العابرين واللاجئين في المعابر والجرحى وحتى للموتى في مشاهد مؤثرة، لن تنمحى من الذاكرة وصفحات التاريخ.
(2)
لقد أحدثت الحرب وأهوالها وإفرازاتها وتداعياتها المستمرة هزة عنيفة في جسد المجتمع ووعيه وطرائق تفكيره، وسيكون لها حتما انعكاسات عديدة في الحاضر والمستقبل، في كل مناحي الحياة، ولن يكون سودان ما بعد 15 أبريل، هو سودان ما قبله، وعلى الجميع الاستعداد للإجابة على الأسئلة الحامضة في الحلق :
1_هل تؤمن بالعدالة الاجتماعية، وبتوزيع عادل ومنصف للثروة في السودان
2_ما مدى إيمانك بشعارات الثورة وأهدافها وبالحرية لك ولسواك. 3_كيف تنظر للتنوع الاجتماعي والثقافي والديني في السودان ؟
4_هل راجعت نفسك بعد اندلاع الحرب، وتخيلت المعاناة و تأثير الحرب التي ظلت تدور على أجساد الأبرياء مثلك في مناطق عديدة من وطنك منذ 1984م، بجبال النوبة وجنوب كردفان وغرب كردفان والنيل الأزرق ودارفور ومناطق أخرى تخطاها التوثيق والإعلام.
5_هل فكرت أن تتعرف على جغرافية وطنك من خلال أخبار الحرب، أم انصب اهتمامك على مأساتك الخاصة، عملا بمبدأ الحكمة القائلة(هبط الليل على الجميع ولكن لكل منا ظلامه الخاص)
6_هل أزعجك التنوع الهائل في ثقافات شعبك وألوانهم ولهجاتهم وموروثاتهم وتخلف سبل حياتهم.
7_هل سألت نفسك عن السبب في ذلك التخلف التنموي و شعرت بالحرج من صور ومشاهد السرقات والتعدي عل المتلكات في مدن السودان؟
8_هل ناقشت نفسك لتعرف أسباب وجذور هذه الممارسات المشينة؟ 9_هل تذكرت لجنة إزالة التمكين؟ و أجريت مقاربات بين هذه الممارسات والسرقات، وبين عمليات النهب التي ظلت تتم منذ عقود لموارد الشعب ومؤسساته المختلفة؟
(3)
لقد أظهرت الحرب فوارق طبقية هائلة حدثت خلال الثلاثة عقود الماضية، وهى التي أورثت قطاعات واسعة من المجتمع (الحقد الطبقي والحسد واللامبالاة والكراهية والميل للعدوان والعنف والتدمير)، فقد ساهمت عمليات التعتيم الإعلامي الممنهج والظالم، وتزوير حقائق جرائم وفظائع الحرب الطويلة، التي حدثت للملايين من الأبرياء والأطفال والنساء والشيوخ، ساهمت في تهشيم الذاكرة التاريخية لغالبية الاجيال الجديدة من السودانيبن، وعملت علي تمزيق الوجدان المشترك وتفتيت الشعور الجمعي للمواطنين، بالإضافة لعوامل أخرى تتعلق بممارسات الحكومات المتعاقبة وبرامجها ومنهاجها التعليمية وخطط وسائل إعلامها الكسيحة والمتخلفة، وتلك قصة أخرى
(4)
كانت الحرب العبثية فرصة أفرغ فيها العدميون وأعداء الحياة الفائض من مخزون دواخلهم المعطونة بالتخلف، ونشر معلومات مغلوطة، وبث هواجس لأمراض نفسية مزمنة، وتخيلات مهلكة، ضمن محاولاتهم الهروب من الواقع، ولعجزهم القبول بالقدر التاريخي لشعبهم، والتصدي لمهمة بناء وطن بحجم السودان وتاريخه واهمية حضاراته العريقة وموقعه في العالم المعاصر، وكان الدرس الأبلغ لكل أنصار القبح والظلام والظلم والفرقة والشتات والفساد ، قدمه الشعب السوداني في كل مدنه وقراه واتجاهاته، فقد تحمل جرائم الحرب الرهيبة والغريبة ووابل رصاصها وقذائفها وصواريخها في جسد ابنائه وبناته، وعلى حساب استقراره وطمأنينته ومعاشه وعلاجه، وتكسرت كل محاولات المجرمين والقتلة واللصوص لجره لحرب أهلية وسجنه في أطر قبلية وجهوية ضيقة أصغر من تطلعاته الباذخة، واثبت أنه شعب الثورات والحضارات والمستقبل والمعاصرة وأنه عصي على المؤامرات والفتن، رغم فداحة المخطط الذي دبر لثورته السلمية الملهمة.